يقرأ حاليا
حكاية شعب، أنهى المستعمر و هزمه الموروث
FR

حكاية شعب، أنهى المستعمر و هزمه الموروث

لم يكن تدشين أول انتخابات تشريعية في المغرب بالأمر الهين، خاصة في ظل السياق الذي كان يعيشه المغرب، حيث خرج مرهقا بعد حرب ضروس ضّد المستعمر الفرنسي والإسباني.

 

وبعد الانتهاء من “معركة التحرير” باشرت أحزاب الحركة الوطنية نضالا آخر من أجل كسب السلطة، ومشاركتها مع “السلطان” الذي كان يحظى بشرعية نضالية نتيجة انتصاره للحركة الوطنية، إلى جانب الشرعية الدينية كأمير للمؤمنين والتاريخية كملك دولة ضاربة في جدور التاريخ.

لقد رسمت الانتخابات التي نظمت سنة 1963، أولى ملامح السلوك الانتخابي للمواطن المغربي، والذي أظهرت الدراسات الأجنبية والوطنية “على نذرتها” خصوصية هذا السلوك المغربي كما هي خصوصية النظام السياسي والدستوري فيه، فقد قال ” Claud pallazoli ” أحد فقهاء الدستور الأجانب “عندما تدرس النظام السياسي الدستوري المغربي تصاب بالدوخان“.

عبارة “بالازولي” تنسحب أيضا على الدراسات حول الانتخابات المغربية، فبالإضافة إلى مانع غياب شرط النزاهة و الشفافية بحسب البعض، هناك عدم وضوح وثبات المرجعيات العلمية والمؤشرات الموضوعية التي على أساسها يمكن للباحث دراسة “الانتخابات المغربية” دون أن يصاب بالدوخان، مما يعني بالنسبة لهم أن كل محاولة للدراسة لن تكون إلا محاولة لإضفاء صبغة المصداقية على نتائج الانتخابات، دون إغفال أن صعوبة الحصول على الوثائق الخاصة بالانتخابات جعلت عدد من الباحثين  يتخلون عن فكرة دراسة هذه الظاهرة.

القبيلة هزمت الوطنيين

تعتبر سنة 1960 محطة حاسمة للدول التي حصلت على استقلالها، إذ معظمها جعل من النظام الانتخابي ضرورة لمواكبة الركب الديمقراطي المتقدم، فجل هذه الدول الثالثية اعتمدت النموذج الغربي الديمقراطي كبرادغيم، من خلال محاولتها اعتماد نظام انتخابي تنافسي تعددي، لكن الدراسات حول الموضوع أثبتت أن هذا النظام هو نتاج تطور تاريخي وليس وليد لحظة آنية.

في المغرب ارتبط سلوك الناخب المغربي بمجموعة من الاعتبارات النفسية والاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية، التي تغيرت نوعا ما منذ أول انتخابات مطلع الستينيات إلى غاية اليوم.

بعد سنوات الاستقلال كانت العملية الانتخابية بسيطة يحركها الحماس الوطني المنتشي بجلاء المستعمر، وقد كانت أحزاب الحركة الوطنية تسيطر على المشهد السياسي والانتخابي في الأرياف والمدن، لكن مع الصراعات السياسية المتعددة بدأ السلوك الانتخابي يتغير لصالح القبيلة والأعيان وأصحاب المال، وبدأت الأرياف تلعب الدور البارز في رسم الخريطة السياسية والانتخابية، التي كانت تسيطر عليها الأحزاب المعروفة بالإدارية.

مع سلوك المغرب خيار التناوب الديمقراطي أواخر التسعينيات بدأت الحواضر تستعيد المبادرة في تحديد السلوك الانتخابي وتحديد الأحزاب المتصدرة للمشهد، التي ركزت على البرامج واستهدفت الطبقات الوسطى، لكن يبقى العزوف عن التصويت أكبر هاجس لتفسير السلوك الانتخابي في العمليات الانتخابية منذ 2002.

رصد حسن بلوان، الباحث في العلوم السياسية، تغير السلوك الانتخابي للمغاربة، من خلال مقارنته بين الوسط القروي الذي يمكن توقع نتائج التصويت وكثافته، والوسط الحضري حيث لا يمكن توقع نوايا التصويت مع ضعف منسوب المشاركة فيه، ومن حيث ملاحظة الاختلاف بين الانتخابات الجماعية التي ترتبط بمنطق القرابة والجوار والقبيلة، والتشريعيات التي ترتبط بالمؤسسة الحزبية وبرامجها وأشخاصها.

وهناك عامل آخر لا يقل أهمية في تحديد السلوك الانتخابي، بحسب الباحث، يتعلق بتوظيف الخطاب الديني خاصة من قبل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، وقد حققت تقدما ملموسا خلال الولايتين التشريعيتين السابقتين، لكن “اعتقد أن هذا الخطاب تأثر كثيرا بحكم الإخفاقات التي واكبت التدبير الحكومي، بالإضافة إلى تغير عقلية الناخبين المرتبط معظمهم بتقنيات التواصل والإعلام الحديثة، وظهور تطلعات جديدة تركز على الحرية الفردية والجماعية والتنمية البشرية والعدالة الاجتماعية”.

المال الأسود 

بعد عقود من الزمن، وتوالي المحطات الانتخابية لم يستطع المغرب التخلص من “لعنة المال الأسود” التي تشتد مع كل انتخابات،  ورغم المجهودات القانونية التي تقوم بها الدولة في هذا الباب، إلا أن بعض الفرقاء السياسيين والمترشحين يتبعون هذه الطرق غير المشروعة للتأثير في الناخبين والظفر بالمقاعد الجماعية أو الجهوية أو التشريعية، ورغم أن هذه السلوكات يمنعها القانون الانتخابي إلا أن ابتكار طرق جديدة لاستمالة الناخبين يصعب القضاء عليها كليا، وحمل بلوان الأحزاب السياسية الدور الأكبر في هذا الشأن على اعتبار أن تخليق الحياة السياسية مسؤوليتها الأساسية أولا، وباعتبارها شريك أساسي في العملية الانتخابية برمتها ثانيا، وأن مهمتها الأساسية تأطير المواطنين ثالثا.

ولعب المال دورا كبيرا في سلوك الناخب المغربي، خاصة عندما ارتبط ببعض المناطق الفقيرة والمهمشة والتي يقل فيها مستوى الوعي بخطورة هذه السلوكات.

ومن جهة أخرى يؤثر منطق الزبونية في سلوك الناخب على اعتبار أن معظم المرشحين يمارسون مهاما انتدابية أو وظيفية ترتبط مباشرة بمصالح المواطنين، الذين يُساوٓمون بين أصواتهم وبين قضاء حوائجهم، وهذا النوع من السلوك عنونه باحثون بـ “التصويت النفعي”.

ولا يخفى على أحد أن منطق القبيلة والقرابة لا زال يؤثر على سلوك الناخب المغربي، إذ يعد الولاء للقبيلة خطا أحمرا لا يمكن الخروج عنه، خاصة إذا تعلق الأمر بالانتخابات، ويمكن رصد هذه المظاهر في المناطق الريفية وبعض الأقاليم الجنوبية التي تلعب فيها القبيلة دورا كبيرا في النسيج الاجتماعي. 

المتعلم عازف 

ترجع الدراسات السلوك الانتخابي في المغرب المعروف بانخفاض نسبة المشاركة إلى عزوف المواطن عن المشاركة السياسية بصفة عامة وعدم إيمانه بأن سلوكه الانتخابي أو اختياره مؤثر فعلا واعتقاده أن الدور الرقابي للتصويت هو دور محدود القيمة، لاعتماد المرشحين على عوامل أسرية قبلية لتجميع الأصوات بصرف النظر عن عنصر الكفاءة أو الأداء السابق، كما تشير بعض الدراسات إلى عدم ثقة الناخب في نزاهة الانتخابات وأن النظام الحزبي القائم لا يعبر عن طموحاته.

يلاحظ مراقبون باستغراب عزوف المتعلمين عن المشاركة في التصويت، فعكس ما هو متعارف عليه في الدراسات النظرية للتصويت من حيث وجود علاقة إيجابية بين التعليم ودرجة المشاركة الانتخابية بمعنى أن ارتفاع مستوى التعليم يكون مصحوبا بزيادة نسبة الاشتراك في التصويت، فإن الغالب في المغرب هو تدني مستوى التصويت عند المتعلمين.

فإذا أخذنا مثلا انتخابات 14 نونبر 1997، يلاحظ أنه بعد التجربة الانتخابية 1993 أجابت نسبة 44 % من المستجوبين الذين ينتمون إلى شريحة متعلمة أنهم لن يصوتون في الانتخابات التشريعية 1997.

وترتفع هذه النسبة عند الإناث إلى 52 % وقد كانت نسبة عدم الثقة في الانتخابات سنة 1993 لا تتجاوز 25 % مما يعني أن مؤشر عدم الثقة في الانتخابات قد ارتفع من 24 % إلى 44 % أي الضعف تقريبا.

ومنه نستنتج أن ارتفاع مستوى التعليم وازدياد المعرفة السياسية يعمق لدى المتعلمين الإحساس بعدم قدرتهم على التأثير في السياسات، فكلما زادت درجة المعرفة السياسية وما يطبع العملية الانتخابية من تدخل إداري من جانب وقصور الحياة الحزبية من جانب آخر كلما زاد اقتناع المتعلمين بعدم جدوى مشاركتهم في الانتخابات.

رغم حالة الإحباط وإيمان العديد من المغاربة بـ “قدر العزوف” إلا أن الباحث بلوان يبدو متفائلا خلال هذه الإستحقاقات، حيث أكد أنها ستشهد بداية تغير السلوك الانتخابي بارتفاع نسبة المشاركة مقارنة مع الانتخابات السابقة، والأمر بالنسبة لبلوان لا يرتبط فقط بالجمع بين الانتخابات التشريعية والترابية، بل بتغير جذري في سلوك ونظرة الناخب المغربي للانتخابات، من خلال إقبال الشباب ومشاركته ترشيحا وتأطيرا، وتصالح المواطن مع الدولة اثناء جائحة كوفيد 19، ثم الوعي بالتحديات التي تعيشها البلاد داخليا وخارجيا، بالإضافة إلى التعبئة التي قامت بها بعض الأحزاب منذ 2016، وخفوت دعوات المقاطعة وتراجع التيارات الداعمة لها.

برامج انتخابية مغيبة

“ليس هناك تأثير مباشر لبرامج الأحزاب السياسية على الناخب المغربي” خلاصة قد تبدو قاسية وغير منطقية، إلا أنها واقع الناخب المغربي، ويعزى ذلك لمجموعة من الأسباب السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية أيضا.

فالناخب المغربي خاصة في الأرياف مرتبط بالشخص المرشح أكثر من لونه السياسي أو برنامجه الانتخابي، كما أن ضعف برامج الأحزاب السياسية وتشابهها، يجعل الناخب ينظر إليها كنصوص فضفاضة أو غير قابلة للتحقيق، ويضيف الباحث بلوان إلى ذلك، ثقة المواطن المغربي بمبادرات الدولة وبرامجها أكثر من برامج الأحزاب وإن كانت تشكل الحكومة، ومنسوب ثقة المواطن في الأحزاب وبعض مرشحيها، فحتى إذا كان البرنامج الإنتخابي طموحا وواعدا فإن المرشح الذي يمثله يبقى المرآة التي يجب أن تعكس صدقية وعود هذا البرنامج، وبالتالي فالمرشحون الذين تحوم حولهم الشبهات يؤثرون بشكل سلبي على البرامج الانتخابية وبالتالي تتبدل نوايا التصويت وسلوكات الناخبين بصفة عامة.

في ظل نظام سياسي استثنائي يجمع بين الملكية الدستورية كامتداد حداثي لإمارة المؤمنين والأخير كعمق استراتيجي للأولى، يظل المغاربة مؤمنين بسمو المبادرات الملكية على جميع برامج الأحزاب السياسية، والدليل على ذلك ما جاء به النموذج التنموي الجديد وإعلان الأحزاب استعدادها لتنزيله خلال الولاية الحكومية المقبلة.

تبقى إذن حكاية الناخب المغربي بيد “الخصوصية البعيدة عن الموضوعية العلمية”، خصوصية تجعل التعارض والتكافل الذي يقوم في الأيام العادية على قاعدة عامة على شكل أفقي (فقراء فقراء/أغنياء أغنياء) ينتقل في ظرف الانتخابات إلى تعامل اجتماعي منقلب رأسا على عقب فيصبح التكافل عموديا و لو لفترة وجيزة، فيساعد الغني الفقير أو يوهمه بأنه سيساعده و المقابل هو أن يساعد الفقير (الحلقة الضعيفة) المنتخبين كي يفوزوا بالانتخابات، وحكاية هذا الناخب في الأيام العادية عنوانها الهوة بين المرشح و المنتخب، فالمرشح يعتبر مقدسا و المواطن العادي لا يمكنه أن ينتهك هذا الفارق، ويسمح في فترات معينة للناس (العامة) جميعا الاقتراب من المقدس، فترة يحس فيها المواطن العادي بأن الحل و العقد بيده و لو في بعدهما الوهمي الطوباوي كتعويض عن التهميش و المعاناة.

انتقل إلى أعلى