يقرأ حاليا
التقارب بين قيس سعيد وتبون.. ما هو مستقبل العلاقة بين البلدان المغاربية؟
FR

التقارب بين قيس سعيد وتبون.. ما هو مستقبل العلاقة بين البلدان المغاربية؟

منذ 5 سنوات وتونس ترسل رسائل اطمئنان صوب السلطات الجزائرية، أنها بصدد تغيير استراتيجي ضمن منظومة علاقاتها الإقليمية بشمال إفريقيا، وأن رهانها على الجزائر (بسبب الطوق المحيط بها من جهة ليبيا) هو رهان بحسابات جديدة.

 

ولقد أصبحت تونس (الجديدة هذه)، تتكلم ذات الخطاب وتعلن ذات الرسالة، مهما كان المسؤول الذي يطلقها فيها، سواء كان زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي، أو خصمه السياسي اليوم الرئيس المنتخب ديمقراطيا قيس سعيد. بالتالي، مهم هنا التسطير على أن جملة السيد الغنوشي، منذ شهور، المبشرة بتحالف مغاربي ثلاثي ليبي – تونسي – جزائري، لم تكن فقط صوت تياره السياسي الحزبي، بل هي في مكان ما، بتطور الأمور اليوم، صوت نخبة “تونس الجديدة” السياسية. تلك النخبة التي جاء تصويتها بالإمتناع على قرار مجلس الأمن الأخير رقم 2602، المتعلق بتمديد مهمة المينورسو في الصحراء الغربية للمغرب، متساوقا مع ذات التحول الجديد هناك.

هل مفروض أن يقلق المغرب والمغاربة من ذلك؟

أبدا.. سواء بالمنطق المبدئي للأمور، حيث لكل دولة حريتها في ممارسة حقوقها السيادية كدولة. أو بمنطق دروس التاريخ منذ استقلال تونس الشقيقة، التي ظلت دوما نخبها الحاكمة تصدر عن براغماتية سياسية راسخة. ومن لم يستوعب هذا المعطى التونسي لا يمكنه أن يستوعب معنى بعض قرارتها التي تكون غير متساوقة ومصالحنا القومية الوطنية بالمغرب.

إن التتويج (ربما) لتطور الموقف التونسي ضمن محيطها المغاربي، هو نتائج الزيارة الأخيرة للرئيس الجزائري السيد عبد المجيد تبون إلى العاصمة تونس وصدور ليس مجرد بيان رئاسي عن تلك الزيارة، بل الحرص على إصدار ما وصف ب “إعلان قرطاج”. ومعنى الكلمة هنا سياسيا، أنه إعلان مشترك لدعم الرئاسة التونسية، كونه نسب إلى البلدة التاريخية القديمة قرطاج حيث يقع القصر الرئاسي، شمال العاصمة تونس بحوالي 15 كلمترا. بالتالي فهو “إعلان دولة”، وليس مجرد بيان رئاسي. ولعل قراءة متأنية لفقرات ذلك الإعلان، تبرز أن الرسالة المراد تبليغها فيه كامنة بالتحديد في أن زيارة الرئيس الجزائري “زيارة دولة”، وأن الغاية منها هي “الرغبة المشتركة في الإرتقاء بالشراكة بين البلدين في كافة المجالات إلى أعلى المراتب”، و “وضع أسس جديدة للشراكة بين البلدين نحو مزيد من التكامل الإستراتيجي والتنمية المتضامنة والمندمجة” وفي أهمية “اعتماد نظرة طموحة نحو إرساء فضاء إقليمي جديد جامع ومندمج ومتكامل” بما تبع ذلك من إقرار تنسيق أمام ما وصف ب “كافة التطورات الراهنة والقادمة على الصعيدين الإقليمي والدولي”.

نحن هنا، أمام تتويج عمل تواصلي سياسي تونسي جزائري انطلق أقله منذ خمس سنوات بأفق رؤية استراتيجية جديدة. وأهميته كامنة في أنه يعيد ترتيب واقع العلاقات بين دول المغرب الكبير، من موقع الإنتصار للمصلحة القومية الإستراتيجية لبلدين من بلدانه الخمس. وهو انتصار يحركه لأول مرة ليس الشعارات و “إعلان النوايا” على عادة لقاءات قادة بلداننا العربية (وليس فقط المغاربية)، بل تنظيم ملموس للمصالح الحيوية لبلدين ودولتين. وهذا تطور مهم جدا، عكس ما قد يعتقد، لأنه سيحرر باقي بلدان شمال إفريقيا على مستوى إعادة ترتيب مصالحها القومية الحيوية هي أيضا.

هنا يحق للمتتبع الملاحظ أن يطرح هذا السؤال الكبير: إلى أين ستسير الأمور بين كافة البلدان المغاربية في المستقبل المنظور؟.

لا يمكن إغفال، بداية، أن “إعلان قرطاج” هو طوق نجاة حيوي للنظام الجزائري، وأنه ليس طوق نجاة لتونس فقط. من حيث إنه يفتح بابا لتحرك في الميدان للجزائر بمنطق ما تفرضه العلاقات الدولية اليوم، الذي هو منطق “التكتلات الجهوية”، لم يكن متوفرا لها منذ العشرية السوداء للتسعينات. لكنه يفتح، أيضا، الباب لواقع جيو ستراتيجي جديد، يمنح لبلدين مغاربيين آخرين، مثل المغرب وموريتانيا، أن يرتقيا بعلاقاتهما إلى مستوى محوري جديد، من عناوينه ومن ترجماته التدشين التاريخي لقرار بناء جسر ضخم على نهر السنغال بين نواكشوط ودكار، لتجسير طريق التجارة الحيوية نهائيا بين “الدار البيضاء ولاغوس، مرورا بنواكشوط ودكار وأبيدجان”. أي الإرتقاء بتلك العلاقات ضمن محور حيوي هائل لكامل غرب إفريقيا.

إن الخرائط الجديدة بمنطقتنا، لربما قد أصبحت تصنع أخيرا بمنطق القرن 21، منطق “التكتلات الجهوية” و “ذكاء تنظيم المصالح” ضمن أفق ما هو اقتصادي ملموس، وليس ضمن ما هو كامن في الشعار المبدئي (الأخوي) لروح حسابات القرن 20. ومن يرى في ذلك ملامح قطيعة بين غرب وشرق المغرب الكبير، أو ملامح تقابل ضدي بينهما، سيكون خاطئا تماما، لأنه على العكس من ذلك هي فرصة تاريخية ليعاد ترتيب العلاقة بين البلدان المغاربية بمنطق المصالح والبراغماتية الهادئة.

إقرأ أيضا

ولأن للجغرافية أحكامها الحاسمة في السياسة وفي تنظيم المصالح بين الدول، فإنه بهذا المعنى، طبيعي أن يكون مستقبل تونس مع الجزائر ومستقبل ليبيا مع مصر، وأن يكون مستقبل موريتانيا الحيوي مع المغرب. وما يزكي ذلك، أن نواكشوط لن تقبل قط أن تكون الورقة الأضعف في تكتل محوري جديد بين تونس والجزائر، هي المدركة أن حبل سرتها الحيوي، الضامن لأمنها فعليا ولكرامتها وسيادتها وقوة موقعها هو في عمق علاقتها مع الرباط ومع دكار.

إن “إعلان قرطاج” عكس ما يتوهم بعض من أصدره بخلفية التطويق المغاربي، إنما هو إعلان لتحرير الكثير من المبادرات من ترددها أو من تأخرها. في المقدمة منها، إعادة ترتيب محورية للمواقع الجيو ستراتيجية بين كافة دول شمال إفريقيا، عبر تنظيم تكتلي حيوي للمصالح بين شرق وغرب المغرب الكبير.

ها هنا، يكتسب قرار مجلس الأمن الأخير بخصوص الصحراء الغربية للمغرب، وقبله الإعتراف الأمريكي النهائي بمغربية الصحراء، وتطور المواقف البريطانية والألمانية في علاقة مع منطقتنا (مع تسجيل بعض التخبط في مدريد وتطور في باريس ضمن أفق جديد لمنطقة الساحل بالعلاقة مع الجزائر وتونس). وكذا إعادة الترتيب الكاملة للبنى التحتية بكل الغرب الإفريقي من طنجة حتى دكار (ومنها قريب حتى لاغوس) طرقا وموانئ ومعابر، معاني انعطافات جيوستراتيجية كبرى بمنطقتنا المغاربية بالعلاقة الوثيقة مع تنظيم مصالح القوى العالمية بها (واشنطن، بكين، موسكو، برلين، باريس).

إن “إعلان قرطاج” يحررنا مغربيا وموريتانيا أكثر مما يتوهم البعض.

انتقل إلى أعلى