يقرأ حاليا
الكاريكاتير.. الوجه الآخر للسياسة في المغرب
FR

الكاريكاتير.. الوجه الآخر للسياسة في المغرب

في زمن مضى، كانت هناك رسومات كاريكاتيرية تُصادر، ورسَّاموها يُعتقلون ويُمنعون من النشرِ لسنوات طِوال، اعتبارا لريشتهم اللاذعة في انتقاد السياسة والواقع الاجتماعي المغربي؛ إذ كانت الحرية آنذاك مقصوصة الجناح، وعين المسؤولين لا تُطيق سماع النقد ولا تقبل السخرية؛ غير أنه قد مرت السنوات، وتراكمت التجارب في هذا الفن الذي بات مُستقلا بذاته، وبات صُناع القرار على دِراية بأهميته، وعلى وعي بما تحمله هذه الرسومات من دلالات ورسائل تحمل في عُمقها نقدا لواقع غير مُستساغ.

كان الطريق أمام رواد فن الكاريكاتير في المغرب محفوفا بجملة من الصعاب والمخاطر، خاصة في فترة الثمانينيات، المعروفة بـ”سنوات الرصاص”، حيث اعتقل الرسام حميد البوهالي عشرين يوما، على إثر نشره كاريكاتير لوزير الداخلية آنذاك إدريس البصري وعدد من الوزراء الآخرين، وتم إغلاق جريدته بقرار من وزارة الداخلية؛ وبعدها بسنوات قليلة مُنع العربي الصبان من الرسم في جريدة العلم، بعد نشره لكاريكاتير ينتقد العلاقة بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وكنوع من الاحتجاج على ذلك تركت الجريدة مساحة بيضاء احتجاجا على هذا القرار.

 

تقليم أظافر الفنان

الكاريكاتير والرقابة عنصران لا ينفكان عن بعضهما البعض، ولو افترضنا غياب رقابة الهيئة أو السلطة، فالرقابة الذاتية تبقى راسخة في وجدان كل شخص” بهذه العبارات انطلق ناجي الناجي، رئيس الجمعية المغربية للكاريكاتير، للتعبير عن المواضيع التي يتم التعبير عنها في رسومات الكاريكاتير، مشيرا إلى أن للمؤسسة الإعلامية النصيب الأكبر في توجيه ريشة الرسام، بالنظر إلى الخط التحريري المُعتمد بها.

وفي السياق ذاته، يقول الناجي في حديثه لـ”نقاش21″: “في الماضي كانت هناك بعض الدعاوى القضائية التي تعرض لها عدد من الزملاء، بعضها كان بشكل غير مباشر كمتابعة رسام بالسكر العلني، كما تم إغلاق جريدة بسبب كاريكاتير طائش يمس مقدسات البلد، أما الآن لا توجد قضايا من هذا النوع، وذلك يعود إلى تقليم أظافر الفنان قبل دخوله المؤسسة الإعلامية حتى يكون ناعما ومهادنا”، مردفا “الرسام المبدع والحقيقي لا يمكن بأي حال أن يكون، مهادنا وناعما، مهما كانت شروط وظروف عمله”.

“كان لي دوما هامش كبير من حرية التعبير، ولم يسبق لي أن صُدمت بالرفض أو النهي عن رسوماتي” تقول رهام الهور، المرأة المغربية الأولى التي استطاعت تكسير الجدار الذكوري في فن الكاريكاتير، مضيفة “السياسي منزعج دائما من رسام الكاريكاتير وعيا وإدراكا منه أن هذا الأخير يقف له بالمرصاد مُسجلا كل خطواته وهفواته السياسية، لأن الرسام له القدرة على وضع وجه السياسي أمام المرآة، ويفضح حقيقة مواقفه السياسية التي يغطيها بالشعارات الرنانة؛ ولذلك فإن أغلب المتابعات القضائية ضد الأخير مصدرها رجل السياسة، والتاريخ شاهد على كثير من الحالات التي تجسد هذا الطرح”.

“كنا ننتقد العمل الحكومي، فأصبحت يدي تطاوعني، ولم يسبق أن تم رفض أي من رسوماتي، بالعكس كان هناك تشجيع مستمر، وكان رسمي يُنشر في الصفحة الأولى، وصفحة خاصة أسبوعيا، فضلا عن الرسومات التي ترافق المواد الصحفية على مر صفحات الجريدة” تتابع الهور في حديثها مع “نقاش 21”: “غير أن العراقيل كانت مضاعفة، إذ أن أصلا رسامي الكاريكاتير قلة ومعدودين على رؤوس الأصابع، والعراقيل مصاحبة لكل من الرجل أو المرأة على حد سواء”.

غير أن طارق بودار، رسام كاريكاتير بجريدة “إيكونوميست” له رأي آخر، إذ اعتبر أنه “لا توجد حرية التعبير بالمغرب، ولكن يجب على رسام الكاريكاتير أن يكون مُراوغا للخطوط الحمراء، بكثير من الذكاء وبدون أن يضطر لإحراج القراء” مؤكدا أن رسام الكاريكاتير يجب أن “يسعى للحصول على الحرية بنفسه، وأن يكون مهنيا في رسوماته”.

“صراحة هناك نوع من الغربلة القبلية لكافة الرسومات الكاريكاتيرية بالجريدة، لجعلها تتماشى مع الخط التحريري المُعتمد، لكن بالرغم من ذلك، أحيانا يثار جدلا بخصوص أحد الرسومات” يقول بيودار الذي راكم ما يُناهز عشرين سنة من رسومات الكاريكاتير، مشيرا: “بكل صراحة لم أصل للمحكمة يوما ما، لكن في أحد الأيام أحد الرسومات الخاصة بي فُهمت بشكل خاطئ من طرف القراء ومن طرف المعنيين بالأمر، إذ قمت برسم يُشبه الكلب، كتعبير على رسومات الضرائب، ولكن أنا رسالتي لم تكن أبدا قدحية، إذ كنت أود التعبير عن كون أن مديرية الضرائب تُوضح للموظفين لديها ضرورة مراعاة المُواطن”.

شغب ساخر

الكاريكاتير أو كما يُحب البعض تسميته بالرسم الصحفي أو الرسم الهزلي أو الكوميكس، كلها أسماء تشير لأقدم الفنون البشرية؛ عرفه المصريون القدماء والآشوريين واليونانيين في البداية، وتعود جذوره الأولى إلى سنة 1250 ق.م بالنظر لوجوده في مقابر وادي الملوك بمصر القديمة، غير أن بداية انتشاره كانت مع وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية في الثلث الأول من القرن 19؛ ليصبح فيما بعد من أهم أدوات الاحتجاج السياسي، ومقياسا لدرجة حرارة الديمقراطية والحرية.

ويصف الناجي فن الكاريكاتير، بأنه “سلاح التغيير، وسلاح للكشف وفضح عورة السياسيين بأخطائهم وعيوبهم، ومن جهة ثانية يُعتبر بمثابة قمح الفقراء المُعبر عن الأنين والأوجاع، فسخريته الفنية ليست مجانية، بل هي سخرية ذكية تقتنص المفارقات الغائبة، وتحولها لرسومات على شكل صدمات كهربائية، فالفنان لديه طاقة كبيرة في التعبير، وطموح في التغيير، رسوماته تقول الحقيقة، ولا يهمه أحد، مهما كلفه ذلك من خسران ومتاعب نفسية”.

“السياسي ينزعج عندما تُمس مصالحه أو كرسيه أو موقعه الحزبي ولكن طريقته في الرد لا تكون مباشرة عبر دعوة قضائية أو ما شابهها حتى لا تًمس سمعته، لكنه في المُقابل يتصل بمسؤولين المنبر الإعلامي، كما وقع لي باستمرار في حياتي المهنية حيث يتم التوبيخ أو التوقيف، ويُغلق الملف” يؤكد الناجي.

من جهتها، تؤكد الهور التي راكمت خلال مسارها المهني جملة من الرسومات الجريئة والساخرة، تتجاوز من خلالها المألوف، وتُسلط الضوء على آلام مجتمعية عميقة، أن “السياسي يعتبر رسام الكاريكاتير خصمه الأبدي لعدد من الاعتبارات، من ضمنها أن الرسم الساخر هو فن الاختصار الشديد ويقول كل شيء بخطوط بسيطة تعبر عن المعنى المقصود بأسلوب يفهمه الجميع، المثقف والأمي، وهنا تكمن خطورته على كل سياسي يمتهن تحريف الحقائق أمام الرأي الوطني العام”.

واعتبر بودار، في حديثه لـ”نقاش 21″ أن رسم الكاريكاتير، هو “الأسلوب الساخر لعرض المستجدات، إذ من خلاله يتم إثارة الانتباه والتركيز عن انتقاد الأشياء التي تُثير الجدل” مردفا أن “الكاريكاتير يُمكن أن يكون في عدد من الأحيان أخطر من المقالات المكتوبة” موضحا في السياق ذاته أن ولوجه للرسم الكاريكاتيري أتى من باب الصُدفة، إذ إنها مهنة يختلجها الكثير من المشاكل، وكان من الممكن أن تكون أفضل بكثير في المغرب لولا عدد من الاعتبارات.

أما عن حدود الحرية التي أصبحت مُتاحة لرسامي الكاريكاتير في المغرب، يقول الناجي، في حديثه لـ”نقاش21″ إنه “عالي جدا والحمد لله بفضل رواد الكاريكاتير الذين وسعوا هامش الحرية وضحوا بالغالي والنفيس مثل الفنان لمهادي الذي يُعد من الفنانين الذين وضعوا اللبنة الأولى لتأسيس فن الكاريكاتير بالمغرب، ويعود له الفضل الكبير مع نخبة من زملاء المهنة كالصبان، وحمودة رحمه الله، والفيلالي والبوهالي حميد..”.

ريشة ناعمة ذو طعم لاذع

إذا كانت المرأة المغربية تمكنت من ولوج كافة أشكال العمل الصحفي مُثبتة الكثير من التميز والجدارة فإن فن الريشة الذكية بقي عصيا على الأيادي الناعمة، الشيء الذي تعبر عنه الهور بالقول: “كانت هناك دوما نظرة قاصرة للمرأة، وأنها قد لا تستطيع المواكبة، خاصة بالنسبة للمواضيع السياسية، غير أن هذا الأمر كان حافزا بالنسبة لي، وجعلني أصر على مواكبة الأحداث وأن يكون لي زخم معرفي متجدد للمواكبة اليومية”.


الهور التي اختارتها شبكة “بي بي سي” ضمن قائمة مائة امرأة مؤثرة لعام 2016، تتابع في حديثها لـ”نقاش21″: “كان الأمر صعبا في البداية، ثم طرقت الأبواب من جريدة إلى أخرى، إلى أن استقريت مهنيا في جريدة “رسالة الأمة” فكان الأمر تحدي بالنسبة لي إذ كان الاشتغال بشكل يومي، عملت دوما على وضع اليد على مكامن الخلل بطابع من السخرية”.

أما عن أبرز المواقف التي تعرضت لها الهور، تقول: “بحكم أن الجريدة التي أشتغل بها من المعارضة، فكنت أعتمد على خرجات عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق، كركيزة أساسية لأغلب رسوماتي، وهو كان متتبع للجريدة بشكل يومي، إلى أن قُمت بنشر رسم عن الحصيلة الحكومية ورفع الدعم عن المواد الأساسية، فاتصل بنكيران برئيس التحرير، للاحتجاج على كثرة التركيز عليه، لكنه حين عرف أن الرسامة امرأة قام بتجاوز الأمر، وطلب شكري وتشجيعي، وهذا الأمر اعتبرته حافزا لي”.

بدون رقابة

يظل رسم الكاريكاتير وثيقة تاريخية يتوقف عندها الزمن، وتحتفظ بالتفاصيل التي تحمل معها نكهة المرار الممزوجة بالابتسامة الساخرة، لِما له من قدرة بارزة على خلط جوانب الجد بالهزل في قضايا شديدة الأهمية؛ وكان هذا الفن في الماضي موصولا بالنخبة، وشبه منزو عن العامة، وتأثيره كان مقتصرا على قراء الصحف الورقية، غير أن الزمن تغير فأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تُساهم في خلق شعبية للرسومات المتداولة من حِساب إلى آخر؛ وكأن مبدعي الرسومات الهزلية باتت لهم قدرة مضاعفة في إعادة بث الوجع الصارخ بشكل ساخر.


وأصبح رسامو الكاريكاتير في المغرب يعتبرون وسائل التواصل الاجتماعي من أهم المنابر التي تتيح لهم المجال للتعبير والتنفيس عن همومهم، بدون رقابة، وبكثير من التفاعل؛ إذ باتت هذه المنابر بالنسبة للكثير من الرسامين خير ضامن للانتشار الواسع وتحقيقا للشهرة على المستويين الإقليمي والعالمي في ظل وقت وجيز.
أما المستقبل فإنه بعين الناجي يُعتبر “ضبابيا في ظل الظروف الحالية، حيث يعيش الإعلام المغربي أسوء أيامه بعد إغلاق عدد من المؤسسات الإعلامية، بسبب الظروف المادية المزرية التي يعيشها القطاع، إذ تدنت مبيعات الصحف وضعفت مداخيلها من الإشهار وتأثير أزمة كورونا على الاقتصاد العالمي” مضيفا “عدد من رسامي الكاريكاتير ممن أفنوا سنوات عمرهم في الجرائد، أصبحوا الآن بدون مدخول شهري، فاضطر بعضهم إلى حلول ترقيعية لكسب القوت اليومي، فيما اضطر آخرون لتغيير مسارهم المهني، في ظل غياب تام للوزارة الوصية”.

وعلى غرار المغرب، يشهد فن الكاريكاتير تراجعا مستمرا في كافة دول العالم، كما أن الأزمة الاقتصادية التي حلت عقب الجائحة ألقت بضلالها على غالبية الصحف، وخاصة على رسوم الكاريكاتير بسبب انخفاض أسعار الصحف والمجلات، وتدهور الإعلانات والإيرادات، حيث لا تقوم المؤسسات الصحافية بتوظيف رسامي كاريكاتير وإنما تتعامل معهم بنظام القطعة، وهو أمر ينعكس تلقائيا على مصدر دخل هذه الفئة التي تعاني من قلة الموارد المالية.

فن يفتقر للتوثيق

ولأن الاهتمام بالفن الكاريكاتيري في المغرب بات مُتزايدا، أصدر إبراهيم الحيسن، فنان وناقد تشكيلي وباحث في التراث الأدبي والجمالي الصحراوي، كتاب “الكاريكاتير في المغرب.. السخرية على محك الممنوع”، ليسلط من خلاله الضوء على هذا الفن كوسيلة لتعرية الممارسة السياسية وكشف هشاشتها في المغرب خاصة؛ فضلا عن رصد الذاكرة الهزلية من خلال بسط عدد من التجارب المُعبرة عن هموم وجراح الطبقة الفقيرة من أبناء الشعب.

الكتاب الحائز على جائزة المغرب للكتاب عام 2019، كأول إصدار من نوعه في المغرب، في طريقة إحاطته بالموضوع من كافة الجوانب، يُعتبر وثيقة بإمكانها تعزيز المكتبة المغربية، التي تشتكي من ندرة المراجع التي يمكن الاعتماد عليها لتأريخ البدايات الأولى لهذا الفن المشاغب في المغرب.

انتقل إلى أعلى