يقرأ حاليا
حين طرد بومدين آلاف المغاربة من الجزائر انتقاما من الحسن الثاني
FR

حين طرد بومدين آلاف المغاربة من الجزائر انتقاما من الحسن الثاني

السنين كتنسّي، لكن مثل هذه الأمور لا تُمحى من الذاكرة”، بصوت متهدج تخنقه العَبَرات، عاد حميد بذاكرته إلى الوراء، حين تم ترحيله بشكل قسري رفقة أفراد أسرته من الجزائر إلى المغرب أواخر شهر دجنبر البارد من العام 1975، أيام عيد الأضحى.

أسرة حميد العاطي الله، وهو رئيس “جمعية الدفاع عن المغاربة ضحايا الترحيل التعسفي من الجزائر”، واحدة من بين 45 ألف أسرة مغربية، وفق أرقام رسمية، تم ترحيلها وتهجيرُها قسراً من الجزائر نحو الحدود، شهراً واحداً فقط بعد تنظيم المغرب للمسيرة الخضراء، قبل أن يقرر نظام هواري بومدين آنذاك، الرَّدَّ على نجاح المسيرة الشعبية، التي شارك فيها 350 ألف متطوع ومتطوعة، بـ”مسيرة سوداء” (المسيرة الكَحلة)، تعبيراً عن رفضِه لبسط المغرب سيادته على الصحراء، ودعماً لجبهة “البوليساريو” الانفصالية.

على حداثة سنه آنذاك، يؤكد حميد المزداد بمدينة وهران بالجزائر عام 1970 أن العديد من مشاهد الاعتقال والترحيل والمعاناة بقيت راسخة في ذهنه على حداثة سنه، “على الرغم من مرور 46 عاما على تهجيرنا لا أستطيع الحديث عن الموضوع دون أن أذرف الدموع”.

جريمة إنسانية

خلال هذه التراجيديا الإنسانية، تم طرد 350 ألف مغربي ومغربية صوب الحدود الجزائرية المغربية، سبقتها عملية اعتقالات واسعة شملت الآلاف من الرجال والنساء والأطفال ذاقوا خلالها صُنوفا من ” الرعب والخوف والحرمان” وفق تعبير العاطي الله متحدثا لـ “نقاش21″.
” إنها جريمة ضد الإنسانية مورست ضد آلاف الأسر المغربية، بعد أن اعتبرتنا الدولة الجزائرية مذنبين بسبب رفضنا الاعتراف بجبهة “البوليساريو” وتقديم الدعم المالي لها”، وتابع المتحدث قائلا، ” كان الهواري بومدين يكن عداء قويا للمغرب، زادت حدته بعد نجاح المغرب في تنظيم المسيرة الخضراء واسترداد الأراضي المغربية، ما لم يرُق النظام الجزائري”.

طيلة الشهر الذي تلا المسيرة الخضراء، تم استدعاء والد حميد عددا من المرات، يتم التحقيق معه ليومين أو ثلاثة قبل أن يعود للبيت، وهذا ما حصل مع الآلاف من المغاربة القاطنين بالجزائر ممن كانوا يسألونهم عن ولائهم للبلاد ويطالبونهم بالاعتراف بجبهة “البوليساريو” الانفصالية ودفع مبلغ من المال بصفة شهرية من أجل دعمها.


يحكي العاطي الله لـ”نقاش21″، ” أذكر أن السلطات الجزائرية أطلقت سراح والدي في السادسة من صباح يوم عيد الأضحى عام 1975 بعد يومين من التحقيقات، خرج بعدها باحثا عن أضحية العيد، ساعات قليلة حتى اقتحمت الشرطة منزلنا واعتقل والدي من جديد، بعد ثلاثة أيام أخبرونا أن علينا مغادرة البيت، اصطحبونا وتم تكديسنا في مخفر “شاطو9″ الشهير بمدينة وهران رفقة مئات النساء والأطفال والرضع”.

“غادرت المخفر والجزائر منذ عقود من الزمان إلا أن صور المأساة لم تغادرني، لا زالت أصوات صراخ من كانوا يتعرضون للتعذيب في قبو المخفر تزورني، مختلطا بصياح الأطفال المتضورين جوعا وعطشا، أما رائحة المكان فتزكم الأنوف بعد المنع من ولوج المرحاض إمعانا في الإهانة والإذلال” وفق تعبير العاطي الله الذي كان حينها طفلا لم يتجاوز السادسة من عمره.

3 أيام من التعذيب والاحتقار الممنهج داخل المخافر انتهت بنقل 45 ألف أسرة مغربية من مختلف مدن ومناطق الجزائر صوب الحدود المغربية الجزائرية، في الحافلات والشاحنات وحتى تلك الخاصة بجمع الأزبال ونقل الحيوانات.

سنوات الضياع

يستمر حميد في حديثه بإسهاب ودون توقف، ويقول: “حين وصلنا الحدود قام العسكر الجزائري بالتفتيش من الرأس إلى أخمص القدمين، وتجريدنا من كل شيء، كانوا ينتزعون الحلي وحتى الأحذية ويمزقون وثائق ملكية العقارات، ويخبرون المغاربة أن يغادروا الجزائر حفاة عراة لا يملكون شيئا!”.

لم يفكر رجال السلطة مرتين حين كانوا يقتادون البالغين والأطفال صوب غرف من أجل أخد صورهم وترقيمهم على طريقة الإرهابيين والمجرمين، ” لم نكن نعرف النهاية ولا المصير، أما الرحلة فكانت مرعبة وكان برفقتنا مرضى خاضعون لعمليات جراحية ونساء حديثات الولادة أُخرجوا من المستشفيات عُنوة وأخريات أجهضن حملهن، وتوفي الكثير منهم على الحدود”.


استقر الآلاف من المرحلين قسريا بمدن الشرق المغربي وتوزعوا على مخيمات أحاطتها الدموع والآلام حاملة أسماء “لافوار” و”روك 1″ و”روك 2″، مستقرين داخل خيام فيما كانوا يقضون الساعات في طابور طويل للحصول على القليل من الطعام، قبل أن تعمد الدولة إلى ترحيل الأسر إلى مختلف المدن المغربية، حتى تتكلف كل عمالة بجزء من الأعباء والأسر.

بعد ذلك سعت الدولة المغربية إلى تشغيل أرباب الأسر، ممن كان كثير منهم ذوي أملاك وتجارة وممتلكات وعقارات، فقامت بتوظيف الرجال وأبنائهم الشباب كحراس للمدارس والمؤسسات العمومية، وشغلت النساء والفتيات عاملات للنظافة، إلا أن الأجور الهزيلة أدخلت هذه الأسر في دوامة الفقر والحاجة، ما دفع الأبناء اليافعين إلى ترك الدراسة والتوجه للعمل.


بعد 46 عاما على هذه المأساة الإنسانية، لا زال ضحايا الطرد التعسفي يطالبون برد الاعتبار وجبر الضرر، ودعا حميد عبد العاطي الذي يترأس “جمعية الدفاع عن المغاربة ضحايا الترحيل التعسفي من الجزائر”، المغرب إلى الترافع عن حقوق 45 ألف أسرة مغربية أمام المنتظم الدولي وكل الهيئات الأممية المرتبطة بحقوق الإنسان.

عبد العاطي، يؤكد أن الملف متشعب ويضم انتهاكات جسيمة تجاه العديد من الفئات، حيث تم انتهاك حقوق العمال المهاجرين وتسجيل اختفاء قسري لعدد كبير من الأشخاص إلى جانب ملف مناهضة التعذيب وانتهاكات لحقوق المرأة وحقوق الطفل، بالإضافة إلى التفريق بين الرجل وزوجته أو العكس في حال كانا من جنسيتين مغربية وجزائرية.

“لقد دفعنا ثمن وطنيتنا، ولو رضينا بالاعتراف بجبهة “البوليساريو” ودعمها لبقينا معززين مكرمين” يختم عبد العاطي كلامه لـ “نقاش21″ قائلا: ” سنستمر بالمطالبة بحقوقنا وبجبر الضرر ما دمنا على قيد الحياة، وإلا فسنطالب بحقوقنا أمام الله، ووالدتي التي توفيت عام 2017 بغصة الظلم الذي لحقها وأسرتها، ستخبر الله بكل شيء”.

 

انتقل إلى أعلى