يقرأ حاليا
الرقم الخرافي لتحويلات مغاربة العالم (9 مليار دولار) من حسنات دروس جائحة كورونا
FR

الرقم الخرافي لتحويلات مغاربة العالم (9 مليار دولار) من حسنات دروس جائحة كورونا

ما الذي يعنيه الرقم القياسي لتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج هذه السنة؟

 

إنه واحد من الأسئلة الذي فرض نفسه ليس على بنك المغرب وكل الجسم الإقتصادي والمالي المغربي فحسب، ولا حتى على النخب السياسية والإعلامية، بل إنه قد تحول بسرعة إلى موضوع عمومي شعبي، يتداول على كافة مستويات التواصل الإجتماعية مغربيا.

ذلك، أن الرقم فعلا، غير مسبوق، بل إنه يعتبر بمقاييس عدة رقما خرافيا، يقارب 87 مليار درهم، بنسبة زيادة تقارب 28 % (كما حدد ذلك بلاغ لبنك المغرب صدر الأربعاء الماضي). وبلغة الأرقام الضخمة دائما، فإن ذلك الرقم يعني عمليا تحويل ما يتجاوز 9 مليار دولار من العملة الصعبة صوب المغرب، وهو رقم ينافس مداخيل صادرات صناعة السيارات، التي بلغت سنة 2019 حوالي 80 مليار دهم، والتي ينتظر أن تتجاوز هذه السنة 2021 سقف 100 مليار درهم (أي حوالي 11 مليار دولار). مما سيعزز من الأصول الإحتياطية الرسمية للمغرب، بشكل يعادل 7 أشهر من واردات السلع والخدمات.

بالتالي، ما هو التفسير الأسلم لهذا الرقم القياسي المفرح؟

أول تلك التفاسير هو علو ورسوخ ثقافة التضامن العائلي مغربيا، بسبب أن 70 % من مجموع تلك التحويلات قد ذهبت رأسا إلى حسابات بنكية لأفراد مغاربة بالداخل، في مقابل توظيف جزء منها في مجال الإستثمار المقاولاتي وجزء آخر ذهب صوب مقتنيات عقارية أو تجارية. مما يؤكد أن أبناء العائلات المغربية في مختلف جغرافيات العالم، قد بادروا تلقائيا هذه السنة إلى إرسال مساعدات مالية لأهلهم بمختلف مناطق المغرب (مدنه وقراه)، بسبب علمهم بمدى تأثير تداعيات جائحة كورونا على الوضعيات الإجتماعية لمختلف تلك العائلات. مما كانت نتيجته إعلاء مداخيل السوق المالية من العملة الصعبة (وهذا جد مهم)، على القدر نفسه التي ساهمت في ترسيخ تضامن اجتماعي حمائي، قلص من احتمالات أزمة اجتماعية بسبب الجائحة، مما ساهم بشكل مباشر في تحصين النسيج الإجتماعي على مستويات الإستهلاك الشهري للعائلات المغربية، بكل ما لذلك من إسقاطات إيجابية على مستوى دورة الإستهلاك وعلى منظومة التجارة الداخلية وطنيا.

ثاني التفاسير المهمة، هو ثقة المغاربة في بلادهم، بفضل ما سجل من قرارات تدبيرية فعالة لمواجهة تداعيات الجائحة، أفرزت نتائج ملموسة على مستوى الواقع اليومي للمغاربة مؤسساتيا واجتماعيا وأمنيا. حيث تمت استعادة الثقة في الدولة كراعية وحامية، جعلها امتحان كورونا، تبرز كبنية تنظيمية مهيكلة لها أدوات المبادرة السريعة والفعالة التي قدمت ووفرت خدمات ملموسة للمواطن (منظومة التلقيح وحدها عنوان هائل من بينها). بكل ما خلقه ذلك من أثر رضى على الذات الجماعية للمغاربة قيميا، حيث تحقق علو جديد لمعنى الإنتماء ل “الهوية المغربية”، صالح في محطة تاريخية ( مثل حادثة كورونا غير المتوقعة أو المنتظرة في مسار البشرية كلها)، بين المغربي والدولة. وهذا معطى سياسي جد هام، يتطلب اليوم من المؤسسات المنتجة للمعرفة والتحليل العلمي، أن تحسن قراءته بالشكل الذي سيفضي إلى بلورة خلاصات ستكون مرجعا ليس فقط في الداخل المغربي، بل مرجعا حتى ضمن محيطه الجهوي والإقليمي والقاري والدولي.

إقرأ أيضا

إن عودة الدولة كراعية ناظمة لبنية المسار التنموي، ضمن فلسفة العلوم السياسية، يقدم الدليل الملموس على محدودية شروط “نظام السوق” عالميا، كما تبلورت منذ الثمانينات من القرن الماضي (التاتشيرية والريغانية)، التي تقول بحرية السوق وأسبقيته (market) أمام الدولة (state). وإذا كانت أزمة 2008 المالية والإقتصادية العالمية (خاصة بالدول الغربية الغنية) قد قدمت أول ملامح الإنتباه لأهمية إعادة التوازن بين الدولة والسوق، وأن يكون دور الدولة حاميا وتنظيميا لفرض العدالة الإجتماعية بين الطبقات الإجتماعية، وبين شروط السوق وشروط المجتمع الآمن الممنع، فإن كارثة جائحة كورونا، قد رسخت بشكل نهائي يقين حماية دور الدولة تدبيريا وتنمويا وسياسيا وتعزيزه.

بالتالي، فإن ما منحه امتحان مواجهة جائحة كورونا لمختلف شعوب العالم، هو فرصة عودة الهويات الوطنية، تلك التي تسندها أدوار حاسمة للدولة، كراع وحام للجماعة البشرية، التي مفروض تلحمها بينها وحدة جغرافية ومنظومة قيم تشكل صلب هويتها القيمية. وخلال سنوات 2020 و 2021، برز دور للدولة بالمغرب، كآلية (ملاذ) لحماية المصلحة الجماعية للمغاربة، هائلا، مؤثرا، فعالا ومتقدما بشروط الواقع المحيط ببلادنا جهويا وإقليميا وقاريا ومتوسطيا. مما كانت نتيجته إعادة اكتشاف من قبل الأجيال الجديدة من المغاربة لدولتهم، وميلاد روح ثقة وتصالح معها غير مسبوقة خلال الستين سنة الماضية. ولقد تبلورت نتائج ذلك من خلال 3 محطات دالة مغربيا، هي محطات انتخابات 8 شتنبر 2021، حيث سجل ارتفاع كبير لنسبة المشاركة تجاوز 50 %، بما لذلك من معاني عودة الثقة في العملية السياسية عبر الإنتخاب، المفضي إلى المشاركة في صناعة القرار التدبيري عموميا. ثم محطة الإرتفاع التاريخي لتحويلات مغاربة العالم. ثم بروز يقين الرهان على الذات في مجال الإنتاج الصناعي والفلاحي والتقني، لكسب خيار “السيادة التنموية”، التي برزت من خلال العنوان التواصلي الكبير “صنع بالمغرب”.

واضح أننا، في منعطف تاريخي مغربيا وعالميا، فرضته وسهلته ودشنته تداعيات جائحة كورونا، من عناوينه المركزية الثقة في الذات (الثقة في الدولة واحد من ملامحه وعناوينه). ومن عناوينه أيضا تسجيل انعطافة في فلسفة تدبير الدولة، ثم حسن استثمار الثورة التكنولوجية الرقمية عبر خيار تعميم بنية  “الذكاء الإصطناعي”.

انتقل إلى أعلى