يقرأ حاليا
التسولُ الحَديث.. حِين يقتاتُ الكِبار مِن عرقِ الأطفَال
FR

التسولُ الحَديث.. حِين يقتاتُ الكِبار مِن عرقِ الأطفَال

Mendicite-des-enfants-maroc-ni9ach21 (1)

بنظرات ثاقبة تُخفي الكثير من البُؤس، وضعت قطع الشوكولا على موائد المقهى، في جولة شرفية على كافة الزبائن، ثم كررت نفس الجولة لتجمع القطع من جديد، بكلمات باهتة “شري من عندي باش تحلي” (اشتري مني الشوكولا الحُلوة) لعلها تنال رضى بعض الزبائن، للحصول على دريهمات.

مريم، ذات عشرة سنوات، طفلة صغيرة بملامح حادة، تبوح لـ”نقاش21″ “أنا من مدينة تمارة، والدي مُقعدٌ، وأمي خادمة في أحد المنازل في هذه المنطقة التي أشتغل فيها، نستفيق صباحا على الساعة السابعة، لقضاء الأغراض الخاصة بالمنزل، ثم نصل هنا على الساعة التاسعة لينطلق يومنا كالمُعتاد في مقاهي إقامة الصباح”.

تعمل مريم، المُنقطعة عن الدراسة من الفصل الخامس ابتدائي، على التنوع فيما تبيعه من مُنتجات، ما بين الشوكولا، والمناديل الورقية، والورد في المناسبات الخاصة كعيد الحب ورأس السنة الميلادية، وهي حِرفة متوارثة لدى عائلتها، إذ تُشير مريم “أخاف أن أبيع بشكل مُنفرد في هذه المنطقة، لهذا نأتي في الصباح جميعنا، ثم نفترق وفق المقاهي المُحددة لكل شخص فينا، أنا وأخي الصغير، وابنة عمتي، وبنت جارتنا، لأنه من المخاطرة أن يظل أحدنا وحيدا”.

غير أن هند العيدي، رئيسة جمعية “جود” صاحبة الحملة الوطنية “الخير اللي تدير فيه متعطيهش” أشارت أن قصص البؤس والأسى هي ذاتها، تُعاد على ألسنة الأطفال بتفاصيل قليلة مختلفة، من أب مُقعد أو متوفي إلى فقدان كل الأبوين، مؤكدة “منذ ستة سنوات وأنا في العمل الجمعوي مع هذه الفئة بالضبط من المتسولين، وفشلت مرارا وتكرارا في إقناع الأسر بالحصول على عمل قار براتب يحفظ لهم الحياة الكريمة، وكنت أُصدم بالرفض مرارا، والسبب هو قدرتهم على جني أرباح طائلة من اعتمادهم على عرق الأطفال الذين يجعلون منهم محترفين في مهن التسول”.

“غالبا ما يتم استغلال الأطفال الذين هم بدون هوية أو أبناء أمهات عازبات، أو المنحدرين من أسر هاشة، في مهن التسول، فهذه الظاهرة متنامية وهي على مرأى المجتمع المغربي، وتتحمل فيها المسؤوليات التقصيرية كل من الأسر والدولة المغربية” يؤكد محمد حبيب، أخصائي اجتماعي بقسم قضاء الأسرة في المحكمة الابتدائية الرباط.

“هو ليس طفل متسول بل هو فرد من عصابة تحترف التسول واستعطاف المواطنين” يؤكد حبيب في حديثه لـ”نقاش21″ عن المظاهر الحديثة في تسول الأطفال باعتماد أساليب “راقية” مشيرا “اللباس النظيف، هي حيلة ليست بالجديدة على هؤلاء المجرمين، وهي تُدعى بأصحاب اللياقات البيضاء أو إبراز مجموعة من المظاهر الخداعة، وهي نوع من النصب، وبالنسبة للأطفال فهي سيناريو محبوك تشير أن هؤلاء الأطفال فقد يرغبون في توفير المال من أجل الدراسة، كما أن هذه النوعية من الملابس تُسهل على هؤلاء الأطفال الولوج بين المارة، ولا يظلون تحت الأنظار كما أنهم لا يُواجهون بالاستبعاد، إذ لا يجعلون الآخر يشعر بالتقزز منهم”.

من مد اليد إلى الاتجار بالبشر

أطفال كُثر يُقتات من عرقهم بين 200 و250 درهم يوميا، يمضون في ساعات طويلة مُرتَجِلين، تحت أشعة الشمس أو هطول الأمطار، بدون رحيم، وفي أسوء وضعية عمل يمكن أن تُعاش، بحسب وصف دقيق للظاهرة في تقرير صادر عن منظمة “هيومن رايتس ووتش” سنة 2010.

على قارعة شارع محمد الخامس بقلب العاصمة الرباط، طفلٌ لا يتجاوز سنه التاسعة، يجلس على كرسي خشبي وأمامه طاولة صغيرة وُضعت عليها علب قليلة من المناديل الورقية، ودفتر صغير وكتاب مدرسي، لإرسال رسالة مفادها “أنا طفل أدرس، بحاجة للمساعدة” والهدف الأساسي هو الحصول على بضعة دريهمات لضخها في جيوب “مستغليهم”؛ وعلى منواله يمضي عدد من الأطفال بالشارع ذاته على بسط رسومات بسيطة على الأرض لإغراء المواطنين لشرائها منهم مقابل دراهم معدودة.

وبمقتضيات صريحة تكرّس لحق الأطفال في التعليم، ينص الفصل 32 من دستور المملكة المغربية أنه “تسعى الدولة إلى توفير الحماية القانونية، والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال، بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية”. كما يؤكّد الفصل الدستوري نفسه أنّ “التعليم الأساسي حق للطفل وواجب على الأسرة والدولة”. غير أنه بعد تسع سنوات من إقرار الوثيقة الدستورية، لا يزال هناك الآلاف من الأطفال المحرومين من أبسط هذه الحقوق، ولا يزالون يتجرعون مرار الشارع وبُؤس الاستغلال، وبشاعة الأمية.

 

“المتسول الطفل سيكبر يوما ما، ويصبح في أغلب الحالات مدمن على المخدرات، وبالتالي يصبح من السهل عليه اغتصاب باقي الأطفال، أو تقديم جسده للحصول على جرعات من المخدرات كمقابل ذلك، وفي حالات أخرى يستغل هذا الطفل اليافع أطفالا أصغر منه في التسول، فيُسرحهم لصالحه، وهنا يصبح من السهل الحديث عن الاتجار بالبشر، فيُعاد إنتاج البُؤس بأشكال جديدة أكثر حِدة” بحسب العيدي.

إقرأ أيضا

وتصف رئيسة جمعية جود لمساعدة الأشخاص بدون مأوى، القانون المغربي بأنه “ليس رادعا، إذ يعاقِب مُستغلي الأطفال في مهن التسول من شهر واحد لـ 6 أشهر كعقوبة زجرية، في الوقت الذي يحتل فيه المغرب المرتبة الأولى في التسول الاحترافي عربيا، وفق دراسات نُشرت سابقا” مشيرة في سياق حديثها مع “نقاش21” أن “إيمان المواطنين بتقديم الصدقة للأطفال هو شعور طيب ونبيل، ولكنه بات مساهما في خلق سوق تجاري شبه مُهيكَل للأسف، ومحترفيه يجنون أرباح طائلة قد تصل في أدنى تقدير ل 12.000 درهم شهريا”.

من جهته، أكد حبيب، أنه لا بد من مقاربات عملية لمعالجة الظاهرة التي وصفها بالقديمة المُتطورة، “تتعلق الأولى بالمقاربة الزجرية الردعية الأمنية التي يجب القيام بها بتنسيق مع مؤسسات العاملين الاجتماعيين، ثم المقاربة الأمنية الزجرية التي تقوم باجتثاث كل من يستغل الأطفال في التسول أو المستعملين لهؤلاء الأطفال أو من يقدمون لهم مجموعة من الأدوية لجعلهم في وضعية نوم في الشارع، الشيء الذي يُعد أساسا اتجار بالبشر، فضلا عن المقاربة الاجتماعية لمحاولة الرفع من الهشاشة والإقصاء الاجتماعي والنهوض بالأسر للاستفادة من كل مظاهر الحماية الاجتماعية”.

أجساد مستباحة !

لا توجد إحصائيات رسمية حول حالات اغتصاب الأطفال المتسولين بالمغرب، لأن الانتهاكات الجنسية التي يتعرضون لها لا تصل إلى الشرطة أو المحاكم؛ لكن بحسب الأخصائي الاجتماعي بقسم قضاء الأسرة في المحكمة الابتدائية الرباط، إن “من أبشع التصرفات أو السلوكيات الجُرمية التي يًعتبر فيها الأطفال أحداثا، قد تصل لسب وشتم أو للعنف الجسدي بين الطفل المتسول وأحد المارة، وقد تصل للاستغلال الجنسي للأطفال وهتك عرض الفتيات القاصرات وكذلك بالنسبة للذكور؛ كما أن هناك عدد من الذئاب البشرية التي تُمارٍس عليهم البيدوفيليا، وتصل أحيانا للمحاكم على شاكلة شكايات أو محاضر في حالة تلبس، أو على مستوى بعض الحملات التمشيطية التي تصل بالأطفال في وضعية صعبة للمحاكم”.

في الأماكن الضيقة المُظلمة، أو بجنبات الشواطئ، تُمارس على الأطفال أبشع التصرفات، فتُهان كرامتهم للمرة الثانية، وتُصبح أجسادهم وليمة يتنافس عليها المرضى، أو من هم أكبر منهم سنا، بحسب ما أعرب عنه حبيب، مشددا في السياق ذاته على ضرورة “تطوير منظومة مؤسسات الرعاية الاجتماعية التي يوضع فيها الأطفال بشكل يتناسب مع إعدادهم وتأهيلهم وتكوينهم لكي يكونوا مندمجين داخل المجتمع، ولضمان الولوج لسوق الشغل؛ فضلا عن تقديم الدعم المُناسب للأسر في وضعية هشة، وردعها قانونيا للحد من الظاهرة”.

وكانت عدد من جمعيات المجتمع المدني قد اقترحت تفعيل المقتضيات القانونية لتجريم “التسول الاحترافي للأطفال” وتشديد العقوبة في حالة العود، أو العمل على إدماجهم داخل مؤسسات خاصة، غير أن هذا الأمر يذهب بنا نحو مصب آخر، ويدفعنا لطرح سؤال جديد “لماذا يرفض الأطفال ولوج هذه المؤسسات، هل السبب يكمن في أنها تحرمهم من “متعة التجول” و”لذة الحرية” أم لأن الخدمات المقدمة بداخلها لا ترقى لمستوى طموحاتهم.

انتقل إلى أعلى