يقرأ حاليا
هل استعادة دوغول هو الحل يا فرنسا؟
FR

هل استعادة دوغول هو الحل يا فرنسا؟

ما الذي يعنيه كل هذا الشغف الذي تفجر لدى الجسم السياسي الفرنسي من كل التيارات، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بزعيم فرنسا التاريخي الجنرال شارل دوغول؟

هل هي ارتكاسة إلى الماضي أمام ضبابية المستقبل بالنسبة لفرنسا ونخبها؟

أم أن الأمر شغف يعكس حاجة الفرنسيين الملحة لاستعادة كرامتهم التي “أهدرت” أمام اصطخاب صراع مصالح الكبار بالعالم، جددا وقدامى؟. وكم هو عال تيرمومترالإعتذاذ ب “الكرامة” عند الفرنسي (l’orgueil Français).

الحقيقة إن الأمر فيه المعنيان معا. فهو ارتكاسة لاستعادة مجد ماض فرنسي تليد صنعه قائد وطني عندهم من حجم الجنرال دوغول، مثلما أنه في زمن امتحان جائحة كوفيد محاولة لإنهاض روح فرنسا التي “أهينت” في لحظة امتحان تاريخية هائلة مثل التي تواجهها كل شعوب العالم في القرن 21 (وليس أكبر من دليل على تلك الإهانة أمام هذا الإمتحان الذي أذل دولا وأعلى أخرى، من أن مختبر باستور، ذاك السباق في تاريخ البشرية دوما للنجاح في اكتشاف حلول طبية ناجعة وتلاقيح فعالة طيلة القرن 20، قد رفع الراية البيضاء أمام جائحة كوفيد).

ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو لماذا شخصية دوغول بالضبط دون غيرها؟.

ببساطة لأنه الإسم الأكبر الذي منح لفرنسا معنى ومكانة في معمدان القيم بالعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولأنه القائد العسكري والسياسي الذي امتلك شرعية “الوطنية الفرنسية” ضد النازية، وبطل التحرير، والفارس الذي ابتدأ بمجرد نداء، أعزلا، عبر أثير الراديو من لندن يوم 18 يونيو 1940، ليصبح أمة كاملة للمقاومة الفرنسية ضد النازية وضد حكومة فيشي. بل إن الرجل، قد نجح دوما في أن يظل “الرجل المقدام” حين يجبن الكثيرون من القادة السياسيين، وليس أدل على ذلك، أنه الوحيد الذي امتلك شجاعة أن يقول لشباب فرنسا الثائر (ثقافيا وسلوكيا) في ماي 1968: “لقد فهمتكم”، كي يقلب المعادلة في ثورة كانت فرنسا العتيقة، تلك التي ظلت تجر وراءها إرث عقلية الحزب الإستعماري منذ القرن 19، قد وقفت حائرة وجلة أمامها. مثلما أنه القائد السياسي الذي تحفظ أمام مشروع الجمهورية الرابعة لسنة 1946، التي حاولت استعادة روح فرنسا ما بعد هزيمتها أمام بيسمارك في سنة 1870، رغم أنه قائد وبطل التحرير، ليعود سنة 1958 رئيسا ليطرح دستور الجمهورية الخامسة ويفوز بنسبة عالية.

دوغول، لم يكن ذلك فقط، بل هو القائد الذي امتلك دوما جرأة أن يقول لواشنطن في ما معناه “إن باريس ليست خادمة لديكم”، وأنه حين أراد أن يمنح لبلده صوتها المختلف، كان أول زعيم من الغرب يعترف بالنظام الشيوعي الصيني، وأنه سعى ليكون لفرنسا علاقات خاصة مع العالم العربي من خارج منظومة العلاقة مع إسرائيل وحسابات واشنطن. مثلما أنه كان حاسما في مسألة امتلاك فرنسا لقوتها النووية، وفي أن تكون الصناعة الفرنسية في خدمة مشروع “فرنسا الوطن” وليس فرنسا التابعة لبورصة نيويورك، وكانت له حساسية عالية من الدولار الأمريكي.

الظاهر، أن من حسنات جائحة كورونا اليوم، أنها أعادت إلى واجهة العمل السياسي، تدبيريا وضمن فلسفة العلوم السياسية، حيوية وأهمية عودة الدولة (الراعية، الحامية) عالميا إلى تدبير الشأن العمومي، حيث اتضح كما يقول أحد مفكري فرنسا الإقتصاديين، من قيمة دانييل كوهين، أن “المرض ذاتي فردي، لكن مسألة الصحة عمومية”. مما جعل النخبة الفرنسية، بتأثير جارف من وعي رجل الشارع الفرنسي، تعود إلى إعلاء فكرة عودة “الدولة” أمام “تغول السوق”. فكان طبيعيا، أن لا تجد هذه النخبة الفرنسية من نموذج مثالي رفيع لمعنى “الدولة الفرنسية” قيميا وتدبيريا، لما فيه استعادة ل “مجد الإعتذاذ بالكرامة الفرنسية” عالميا، سوى سيرة الجنرال شارل دوغول، صوتها الوطني الإستثنائي.

إقرأ أيضا

المشكل هو أن ذلك لا يلغي واجب التساؤل عن مدى نجاعة تلك العودة، في عالم اليوم، فرنسيا؟

لأنه يخشى أن أزمة باريس (إن لم نقل مشكلتها المكبلة)، كامنة في أنها لا تستمع سوى لصدى صوتها الجواني، وأنها بسبب من ذلك لا تزال ترى لألمانيا خصما دونها قيمة في التاريخ، وترى إلى عمقها المتوسطي والإفريقي والعربي بمنطق الوصاية. وأن معركتها الحقيقية، ليست بالضرورة استعادة مجد دوغول، الذي هو مجد مشرف نعم، لكنه مجد مضى وانتهى، بل أن تنتصر على نفسها من أجل المستقبل. والمستقبل، هو الإنتصار على الذات المتعالية، الذي لا يكون سوى بمنطق التعاون مع محيطها الحيوي، من موقع الندية والإحترام والعقلانية المنتصرة لمكرمة تدبير المصالح المشتركة.

إن مستقبل فرنسا هو البحر الأبيض المتوسط والفضاء العربي والإفريقي الشمالي. لأنه رئتها الحيوية، الذي واجب على نخبها أن تغير فلسفة تدبيرها السياسية مع دوله ومجتمعاته، والقطع مع أسلوب تدبير جاك فوكار، الذي من المفارقة المثيرة أنه كان يد شارل دوغول الضاربة في فضاءنا العربي والإفريقي والمتوسطي.

انتقل إلى أعلى