يقرأ حاليا
سياسة البناء والعمران ببلادنا ومخاطر “غيثوهات” مدننا الجديدة
FR

سياسة البناء والعمران ببلادنا ومخاطر “غيثوهات” مدننا الجديدة

شكلت انتخابات 8 شتنبر 2021 بالمغرب، في أبعادها التشريعية والمحلية والجهوية، فرصة لإعادة دراسة الخطاب السياسي للنخبة الحزبية ببلادنا، على مستوى البناء العام لما اجتهدت لتقديمه من برامج انتخابية (مدققة أو عامة) للناخبين المغاربة.  وإذا كان من الصعب تفصيل القول هنا لتحليل ذلك الخطاب السياسي، فإنه يمكن التوقف عند واحد من أهم الملفات الكبرى الذي أصبح يفرض نفسها في مناسبات ديمقراطية مماثلة، المتمثل في ما يمكن وصفه ب “سياسة المدينة” أو بشكل أدق “سياسة البناء والعمران”.

ليس مستغربا هنا، كمثال، أن سؤال “سياسة المدينة والبناء” قد شكل واحدا من أهم ملفات الحملة الإنتخابية الأخيرة بألمانيا، بالتوازي مع سؤال “حماية البيئة”. بل إن خبيرة ألمانية من أصول مغربية، هي المهندسة المرموقة لمياء المساري بيكر، الأستاذة بجامعة زينغن والعضو ضمن المجلس الإستشاري لحكومة السيد أنجيلا ميركل، ستذهب بعيدا إلى حد المطالبة بإنشاء وزارة خاصة ب “سياسة البناء”، معتبرة أن الأمر يتقاطع مع حق من حقوق الإنسان الأساسية اليوم، وهي العيش بكرامة في مدن حامية ومحافظة على البيئة. مؤكدة أن حق الأجيال القادمة على الأجيال الحالية، يفرض إعادة نظر شمولية في “سياسة البناء”.

نفس النقطة، حضرت كثيرا في الحملات الإنتخابية وبرامج النخب السياسية بكل من الدانمارك وإنجلترا خلال السنوات الأخيرة، بينما غابت بشكل مثير عن الإنتخابات الفرنسية (خاصة المحلية والجهوية منها)، بعد أن كانت في التسعينات تشكل واحدة من أهم ملفات التطارح السياسي بباريس، التي تبلورت من خلال ما عرف حينها بأقطاب “PLM”، التي هي الأحرف الأولى لأسماء مدن باريس وليون ومارسيليا.

هل حضر سؤال “سياسة المدينة” و سؤال “سياسة البناء والعمران” في محطة انتخابات 8 شتنبر 2021 المغربية؟.

الجواب للأسف هو النفي. مما يقدم دليلا على تهافت أغلب الخطاب السياسي للنخب الحزبية ببلادنا، الذي انساق وراء تنافس شرس من أجل استمالة الناخب عبر التنابز الحزبي، أكثر من تقديم اجتهادات مؤسسة للفعل السياسي التدبيري ضمن رؤية مسنودة بمعرفة بالواقع ومبشرة بمشاريع مهيكلة متصالحة مع تحديات المغرب والمغاربة في أفق الثلاثين سنة القادمة. ولعل المثير، أنه كان ممكنا فقط العودة إلى تقرير لجنة النموذج التنموي الجديد المنجز مؤخرا، المتضمن لخزان من القضايا الإشكالية المماثلة على مستوى تحديات التدبير العمومي لإعداد التراب بالمغرب، وضمنها سؤال “سياسة المدينة” و”سؤال البيئة”، لبلورة رؤية مشاريعية في هذا الباب. مما قدم دليلا مقلقا على مستوى الفقر في الإجتهاد لدى الكثير من نخبنا الحزبية بالمغرب.

كان الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، قد قال مرة لجمع من المهندسين المعماريين بالمغرب، ما معناه، إنكم حين ترسمون تصميما للبناء فأنتم لا تبنون مجرد حيطان وأسقف، بل تبنون فلسفة حياة. ويخشى المرء كما لو أننا نسينا هذه الخلاصة السياسية الهامة، خاصة أمام الأعطاب الكثيرة التي تطوق “سياسة المدينة” و “سياسة البناء والعمران” ببلادنا. ولعل من أكبر التحديات اليوم في مجال تخطيط المدن ببلادنا، مسألة تعزيز اللحمة الإجتماعية، كما تطرحها كل أدبيات سياسة العمران بالعالم، حيث يكون الحي السكني مجالا لتواصل اجتماعي وثقافي وإنساني بين مختلف شرائح المجتمع، بالشكل الذي يعزز من اللحمة الإجتماعية والهوية الحضارية للبلد والناس. وهو تواصل يتحقق من خلال مجالات التلاقي العمومية للإستفادة من حق الخدمات العمومية على مستوى التعليم والصحة والمناطق الخضراء ومجالات الترفيه ومنصات الإنتاج الثقافي والرياضي وغيرها.

هل هذا هو المتحقق في مدننا المغربية، خاصة المدن الكبرى مثل الدار البيضاء وطنجة ومراكش والرباط وفاس؟. 

إقرأ أيضا

للأسف إن ما أصبح يفرزه الواقع العيني الملموس، هو أننا أصبحنا أمام نوع من ما يمكن تسميته ب “الغيتوهات الإجتماعية” على مستوى السكن، حيث بعض التجزئات السكنية تكون مسورة ومعزولة ومقطوعة عن محيطها الإجتماعي (في الدار البيضاء اليوم مثلا أكثر من 18 تجزئة سكنية مغلقة ومسورة). والحال أن سياسة المدينة تفرض توازنا بين الأحياء وتوازنا بين الخدمات العمومية وتلزم بجعل الفضاء العمومي فرصة للتلاقي السلس والمفتوح بين مختلف الشرائح الإجتماعية، بالشكل الذي يعزز من الثقة ومن مكرمة الحوار والتكامل بين المرجعيات والثقافات والسلوكات الإجتماعية، بما يعزز من آلية التكامل والحوار والتكافل والتعاون في ما بين تلك الشرائح وتلك المرجعيات. ويخشى أن ما تنتجه “سياسة المدينة” و”سياسة البناء والعمران” ببلادنا إنما يفتح الباب أمام تغول مركب، يؤسس لقطيعة اجتماعية بين شرائح وطبقات المجتمع، ويجعل وسيلة التواصل بينها الوحيدة هي الشك وانعدام الثقة المفضيان إلى القطيعة والعنف. وهذا توجه فاتورته تكون دوما ثقيلة على مستوى معنى الأمن العام.

لا أريد أن أكون متشائما هنا، لكن يخشى أن ثمة غولا اجتماعيا للقطيعة بين شرائح المجتمع ببلادنا، تفتح “سياسة المدينة” المتبعة من قبل نخبنا المنتخبة (محليا وجهويا وتشريعيا)، أمامه الباب مشرعة لتقويض روح التكافل الإجتماعي، وروح الإنتماء للمشترك الإنساني، والإنهاء مع قيمة “الجوار” كآلية سلوكية معززة للمشترك الثقافي والإجتماعي والإنساني. نعم قد لا يعود أبدا شكل “روح الدرب والحي” بمدننا المغربية العتيقة، حين كان الحي سقف عائلة كبيرة للجميع. لكن الروح السلوكية التي بلورها ذلك المعنى “للحي والدرب” لا تزال ممكنة، من خلال إنضاج وإبداع رؤية حداثية لمعنى المدينة ولمعنى البناء والعمران ببلادنا متأسس على جعل الحي مجالا لتلاقي إبن الإسكافي مع إبن عمدة المدينة، وإبن الشرائح ذات الهشاشة الإجتماعية مع إبن الشرائح الميسورة. 

لا أريد أن أكون قاسيا، هنا، لكن أمام غياب لسؤال المدينة والعمران عند نخبنا الحزبية المسيرة للشأن المحلي والجهوي، يخشى أننا نتجه صوب الحائط كمجموعة بشرية إسمها “المجتمع المغربي”.

انتقل إلى أعلى